فصل: (سورة البلد: الآيات 8- 16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزمخشري:

سورة البلد:
مكية.
وآياتها 20.
نزلت بعد ق.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.[سورة البلد: الآيات 1- 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{لا أُقْسِمُ بِهذَا البلد (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا البلد (2) وَوالِدٍ وَما ولد (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كبد (4) أيحسب أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحد (5) يَقول أَهْلَكْتُ مالاً لبدا (6) أيحسب أَنْ لَمْ يَرَهُ أحد (7)}.
أقسم سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أن الإنسان خلق مغمورا في مكابدة المشاق والشدائد، واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله: {وأنت حل بهذا البلد} يعنى: ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم.
عن شرحبيل: يحرّمون أن يقتلوا بها صيدا ويعضدوا بها شجرة، ويستحلون إخراجك وقتلك وفيه تثبيت من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجيب من حالهم في عداوته. أو سلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وآله وسلم بالقسم ببلده، على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه. فقال: {وأنت حل بهذا البلد}، يعنى: وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر. وذلك أنّ اللّه فتح عليه مكة وأحلها له، وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له فأحل ما شاء وحرّم ما شاء. قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة. ومقيس بن صبابة وغيرهما، وحرّم دار أبى سفيان، ثم قال: «إنّ اللّه حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، فلا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد». فقال العباس: يا رسول اللّه، إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إلا الإذخر».
فإن قلت: أين نظير قوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ} في معنى الاستقبال؟
قلت: قوله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ومثله واسع في كلام العباد، تقول لمن تعده الإكرام والحباء: أنت مكرم محبو، وهو في كلام اللّه أوسع، لأنّ الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة. وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال: أن السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة عن وقت نزولها، فما بال الفتح؟ فإن قلت: ما المراد بوالد وما ولد؟
قلت: رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن ولده، أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه ابراهيم ومنشأ أبيه إسماعيل، وبمن ولده وبه.
فإن قلت: لم نكر؟
قلت: للإبهام المستقل بالمدح والتعجب.
فإن قلت: هلا قيل ومن ولد؟
قلت: فيه ما في قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ} أي بأى شيء وضعت، يعنى موضوعا عجيب الشأن.
وقيل: هما آدم وولده.
وقيل:
كل والد وولد.
والكبد: أصله من قولك: كبد الرجل كبدا، فهو أكبد: إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة. ومنه اشتقت المكابدة، كما قيل: كبته بمعنى أهلكه.
وأصله: كبده، إذا أصاب كبده.
قال لبيد:
يا عين هلّا بكيت أربد إذ ** قمنا وقام الخصوم في كبد

أى: في شدة الأمر وصعوبة الخطب.
والضمير في أيحسب لبعض صناديد قريش الذي كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد. والمعنى: أيظن هذا الصنديد القوى في قومه المتضعف للمؤمنين: أن لن تقوم قيامة، ولن يقدر على الانتقام منه وعلى مكافأته بما هو عليه، ثم ذكر ما يقوله في ذلك اليوم، وأنه يقول {أَهْلَكْتُ مالًا لبدا} يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم، ويدعونها معالى ومفاخر أيحسب أَنْ لَمْ يَرَهُ أحد حين كان ينفق ما ينفق رئاء الناس وافتخارا بينهم، يعنى: أن اللّه كان يراه وكان عليه رقيبا. ويجوز أن يكون الضمير للإنسان، على أن يكون المعنى: أقسم بهذا البلد الشريف، ومن شرفه أنك حل به مما يقترفه أهله من المآثم متحرج بريء، فهو حقيق بأن أعظمه بقسمي به {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كبد} أي في مرض: وهو مرض القلب وفساد الباطن، يريد: الذين علم اللّه منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات.
وقيل: الذي يحسب أن لن يقدر عليه أحد: هو أبو الأشد، وكان قويا يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول: من أزالنى عنه فله كذا، فلا ينزع إلا قطعا ويبقى موضع قدميه.
وقيل: الوليد بن المغيرة.
{لبدا} قرى بالضم والكسر: جمع لبدة ولبدة، وهو ما تلبد يريد الكثرة.
وقرئ: {لبدا} بضمتين: جمع لبود. و{لبدا}: بالتشديد جمع لابد.

.[سورة البلد: الآيات 8- 16]

{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عينين (8) وَلِساناً وشفتين (9) وَهَدَيْناهُ النجدين (10) فَلا اقْتَحَمَ العقبة (11) وَما أَدْراكَ مَا العقبة (12) فَكُّ رقبة (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة (14) يَتِيماً ذا مقربة (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا متربة (16)}.
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عينين} يبصر بهما المرئيات {وَلِساناً} يترجم به عن ضمائره {وشفتين} يطبقهما على فيه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك {وَهَدَيْناهُ النجدين} أي طريقى الخير والشر.
وقيل: الثديين {فَلَا اقْتَحَمَ العقبة} يعنى: فلم يشكر تلك الأيادى والنعم بالأعمال الصالحة: من فك الرقاب وإطعام اليتامى والمساكين، ثم بالإيمان الذي هو أصل كل طاعة، وأساس كل خير، بل غمط النعم وكفر بالمنعم. والمعنى: أن الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق المرضى النافع عند اللّه، لا أن يهلك مالا لبدا في الرياء والفخار، فيكون مثله مَثَلُ {رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ...} الآية.
فإن قلت: قلما تقع (إلا) الداخلة على الماضي إلا مكررة، ونحو قوله:
فأىّ أمر سيّئ لأفعله

لا يكاد يقع، فما لها لم تكرر في الكلام الأفصح؟
قلت: هي متكررة في المعنى، لأن معنى {فَلَا اقْتَحَمَ العقبة} فلا فك رقبة، ولا أطعم مسكينا. ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك.
وقال الزجاج قوله: {ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} يدل على معنى: {فَلَا اقْتَحَمَ العقبة}، ولا آمن.
والاقتحام: الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة. والقحمة: الشدة، وجعل الصالحة: عقبة، وعملها: اقتحاما لها، لما في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس.
وعن الحسن: عقبة واللّه شديدة. مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوّه الشيطان. وفك الرقبة: تخليصها من رق أو غيره.
وفي الحديث: أن رجلا قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يدخلني الجنة. فقال: «تعتق النسمة وتفك الرقبة».
قال: أو ليسا سواء؟ قال: «لا، إعتاقها أن تنفرد بعتقها. وفكها: أن تعين في تخليصها من قود أو غرم». والعتق والصدقة: من أفاضل الأعمال.
وعن أبى حنيفة رضى اللّه عنه: أن العتق أفضل من الصدقة.
وعند صاحبيه: الصدقة أفضل، والآية أدل على قول أبى حنيفة، لتقديم العتق على الصدقة.
وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة: أيضعه في ذى قرابة، أو يعتق رقبة؟ قال: الرقبة أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فك رقبة فك اللّه بكل عضو منها عضوا منه من النار».
قرئ: {فك رقبة أو إطعام} على: هي فك رقبة، أو إطعام.
وقرئ: {فك رقبة أو أطعم}، على الإبدال من {اقتحم العقبة}.
قوله: {وَما أَدْراكَ مَا العقبة} اعتراض، ومعناه: أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند اللّه. والمسغبة، والمقربة، والمتربة: مفعلات من سغب: إذا جاع. وقرب في النسب، يقال: فلان ذو قرابتي.
وذو مقربتى. وترب: إذا افتقر، ومعناه. التصق بالتراب. وأما أترب فاستغنى، أى: صار ذا مال كالتراب في الكثرة، كما قيل: أثرى.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «في قوله: {ذا متربة} الذي مأواه المزابل»، ووصف اليوم بـ: {ذي مسغبة} نحو ما يقول النحويون في قولهم: هم ناصب: ذو نصب.
وقرأ الحسن: {ذا مسغبة} نصبه بـ: {إطعام}. ومعناه: أو إطعام في يوم من الأيام ذا مسغبة.

.[سورة البلد: الآيات 17- 20]

{ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بالمرحمة (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الميمنة (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ المشأمة (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مؤصدة (20)}.
{ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} جاء بثم لتراخى الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة، لا في الوقت، لأنّ الإيمان هو السابق المقدّم على غيره، ولا يثبت عمل صالح إلا به. والمرحمة: الرحمة، أى: أوصى بعضهم بعضا بالصبر على الإيمان والثبات عليه. أو بالصبر عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن، وبأن يكونوا متراحمين متعاطفين. أو بما يؤدى إلى رحمة اللّه. {الميمنة} و{المشأمة}: اليمين والشمال. أو اليمن والشؤم، أى: الميامين على أنفسهم والمشائيم عليهنّ.
قرئ: {موصدة}، بالواو والهمزة، من وصدت الباب وآصدته: إذا أطبقته وأغلقته.
وعن أبى بكر بن عياش: لنا إمام يهمز {مؤصدة}، فأشتهى أن أسدّ أذنى إذا سمعته.
عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ لا أقسم بهذا البلد أعطاه اللّه الأمان من غضبه يوم القيامة». اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بهذا البلد}
ومعناه على أصح الوجوه:
{أُقْسِم} بهذا البلد، وفي {البلد} قولان:
أحدهما: مكة، قاله ابن عباس.
الثاني: الحرم كله، قاله مجاهد.
{وأنتَ حلٌّ بهذا البلد} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: حل لك ما صنعته في هذا البلد من قتال أو غيره، قاله ابن عباس ومجاهد.
الثاني: أنت مُحِل في هذا البد غير مُحْرِم في دخولك عام الفتح، قاله الحسن وعطاء.
الثالث: أن يستحل المشركون فيه حرمتك وحرمة من اتبعك توبيخاً للمشركين. ويحتمل رابعاً: وأنت حالٌّ أي نازل في هذا البلد، لأنها نزلت عليه وهو بمكة لم يفرض عليه الإحرام ولم يؤْذن له في القتال، وكانت حرمة مكة فيها أعظم، والقسم بها أفخم.
{ووالدٍ وما ولد} فيه أربعة أوجه.
أحدها: آدم وما ولد، قاله مجاهد وقتادة والحسن والضحاك.
الثاني: أن الوالد إبراهيم وما ولد، قاله ابو عمران الجوني.
الثالث: أن الوالد هو الذي يلد، وما ولد هو العاقر الذي لا يلد، قاله ابن عباس.
الرابع: أن الوالد العاقر، وما ولد التي تلد، قاله عكرمة.
ويحتمل خامساً: أن الوالد النبي صلى الله عليه وسلم، لتقدم ذكره، وما ولد أُمتّه، لقوله عليه السلام إنما أنا لكم مثل الوالد أعلّمكم، فأقسم به وبأمّته بعد أن أقسم ببلده مبالغة في تشريفه.
{لقد خَلقنا الإنسانَ في كبد} إلى هاهنا انتهى القسم وهذا جوابه. وفي قوله: {في كبد} سبعة أقاويل:
أحدها: في انتصاب في بطن أُمّه وبعد ولادته، خص الإنسان بذلك تشريفاً، ولم يخلق غيره من الحيوان منتصباً، قاله ابن عباس وعكرمة.
الثاني: في اعتدال، لما بيّنه بعد من قوله: {ألم نَجْعَلْ له عينين} الآيات، حكاه ابن شجرة.
الثالث: يعني من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، يتكبد في الخلق مأخوذ من تكبد الدم وهو غلظه، ومنه أخذ أسم الكبد لأنه دم قد غلظ، وهو معنى قول مجاهد.
الرابع: في شدة لأنها حملته كرهاً ووضعته كرهاً، مأخوذ من المكابدة، ومنه قول لبيد:
يا عين هلاّ بكيْتِ أَرْبَدَ إذ ** قُمْنا وقامَ الخصومُ في كبد.

رواه ابن أبي نجيح.
الخامس: لأنه يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة، قاله الحسن.
السادس: لأنه خلق آدم في كبد السماء، قاله ابن زيد.
السابع: لأنه يكابد الشكر على السّراء والصبر على الضّراء، لأنه لا يخلو من أحدهما، رواه ابن عمر.
ويحتمل ثامناً: يريد به أنه ذو نفور وحميّة، مأخوذ من قولهم لفلان كبد، إذا كان شديد النفور والحمية.
وفيمن اريد بالإنسان ها هنا قولان:
أحدهما: جميع الناس.
الثاني: الكافر يكابد شبهات.
{أيحسب أنْ لَنْ يَقْدِر عليه أحد} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه الله أن يبعثه بعد الموت، قاله السدي.
الثاني: أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه أحد بأخذ ماله، قاله الحسن.
الثالث: أيحسب أن لن يذله أحد، لأن القدرة عليه ذل له.
{يقول أَهْلَكْتُ مالاً لبدا} فيه وجهان:
أحدهما: يعني كثيراً.
الثاني: مجتمعاً بعضه على بعض، ومنه سمي اللّبْد لاجتماعه وتلبيد بعضه على بعض.
ويحتمل ثالثاً: يعني مالاً قديماً، لاشتقاقه من الأبد، أو للمبالغة في قدمه من عهد لَبِد، لأن العرب تضرب المثل في القدم بلبد، وذكر قدمه لطول بقائه وشدة ضَنِّه به.
وقيل إن هذا القائل أبو الشد الجمحي، أنفق مالا كثيراً في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصد عن سبيل الله، وقيل بل هو النضر بن الحارث.
وهذا القول يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون استطالة بما أنفق فيكون طغياناً منه.
الثاني: أن يكون أسفاً عليه، فيكون ندماً منه.
{أيحسب أن لم يَرَهُ أحد} فيه وجهان:
أحدهما: أن لم يره الله، قاله مجاهد.
الثاني: أن لم يره أحد من الناس فيما أنفقه، قاله ابن شجرة.
ويحتمل وجهاً ثالثاً: أيحسب أن لم يظهر ما فعله أن لا يؤاخذ به، على وجه التهديد، كما يقول الإنسان لمن ينكر عليه فعله، قد رأيت ما صنعت، تهديداً له فيكون الكلام على هذا الوجه وعيداً، وعلى ما تقدم تكذيباً.
{وهَدَيْناه النجدين} فيهما أربعة تأويلات:
أحدها: سبيل الخير والشر، قاله على رضي الله عنه والحسن.
الثاني: سبيل الهدى والضلالة، قاله ابن عباس.
الثالث: سبيل الشقاء والسعادة، قاله مجاهد.
الرابع: الثديين ليتغذى بهما، قاله قتادة والربيع بن خثيم.
قال قطرب: والنجد هو الطريق المرتفع، فأرض نجد هي المرتفعة، وأرض تهامة هي المنخفضة.
ويحتمل على هذا الاشتقاق خامساً: أنهما الجنة والنار، لارتفاعهما عن الأرض.
{فلا اقْتَحَمَ العقبة} فيها خمسة أقاويل:
أحدها: أنها طريق النجاة، قاله ابن زيد.
الثاني: أنها جبل في جهنم، قاله ابن عمر.
الثالث: أنها نار دون الحشر، قاله قتادة.
الرابع: أنها الصراط يضرب على جهنم كحد السيف، قاله الضحاك، قال الكلبي: صعوداً وهبوطاً.
الخامس: أن يحاسب نفسه وهواه وعدوّه الشيطان، قاله الحسن.
قال الحسن: عقبة والله شديدة.
ويحتمل سادساً: اقتحام العقبة خالصة من الغرض.
وفي معنى الكلام وجهان:
أحدهما: اقتحام العقبة فك رقبة، قاله الزجاج.
الثاني: معناه فلم يقتحم العقبة إلا مَنْ فكَّ رقبة أو أطعم، قاله الأخفش.
ثم قال: {وما أدْراكَ ما العقبة} وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليعلمه اقتحام العقبة.
ثم بين تعالى ما تقتحم به العقبة.
فقال: {فَكُّ رقبة} فيه وجهان:
أحدهما: إخلاصها من الأسر.
الثاني: عتقها من الرق، وسمي المرقوق رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط من رقبته، وسمي عتقاً فكها لأنه كفك الأسير من الأسر، قال حسان بن ثابت:
كم مِن أسيرٍ فككناه بلا ثَمنٍ ** وجَزّ ناصية كُنّأ مَواليها

وروى عقبة بن عامر الجهني أن النبي عليه السلام قال: من أعتق مؤمنة فهي فداؤه من النار.
ويحتمل ثالثاً: أنه أرد فك رقبته وخلاص نفسه باجتناب المعاصي وفعل الطاعات، لا يمنع الخبر من هذا التأويل، وهو أشبه الصواب.
ثم قال تعالى: {أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبة} أي مجاعة، لقحط أو غلاء.
{يتيماً ذا مقربة} ويحتمل أن يريد ذا جوار.
{أو مِسْكِيناً ذا متربة} فيه سبعة أوجه:
أحدها: أن ذا المتربة هو المطروح على الطريق لا بيت له، قاله ابن عباس.
الثاني: هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره، قاله مجاهد.
الثالث: أنه ذو العيال، قاله قتادة.
الرابع: أنه المديون، قاله عكرمة.
الخامس: أنه ذو زمانة، قاله ابو سنان.
السادس: أنه الذي ليس له أحد، قاله ابن جبير.
السابع: أن ذا المتربة: البعيد التربة، يعني الغريب البعيد عن وطنه، رواه عكرمة عن ابن عباس.
{ثُمَّ كانَ مِنَ الذين آمَنوا وَتَوَاصَوْا بالصَّبْر} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: بالصبر على طاعة الله، قاله الحسن.
الثاني: بالصبر على ما افترض الله عليه، قاله هشام بن حسان.
الثالث: بالصبر على ما أصابهم، قاله سفيان.
ويحتمل رابعاً: بالصبر على الدنيا وعن شهواتها.
{وتَواصَوْا بالمرحمة} أي بالتراحم فيما بينهم، فرحموا الناس كلهم ويحتمل ثانياً: وتواصوا بالآخرة لأنها دار الرحمة، فيتواصوا بترك الدنيا وطلب الآخرة.
{أولئك أصحابُ الميمنة} يعني الجنة، وفي تسميتهم أصحاب الميمنة أربعة أوجه:
أحدها: لأنهم أُخذوا من شق آدم الأيمن، قاله زيد بن أسلم.
الثاني: لأنهم أوتوا كتابهم بأيمانهم، قاله محمد بن كعب.
الثالث: لأنهم ميامين على أنفسهم، قاله يحيى بن سلام.
الرابع: لأنه منزلهم على اليمين، قاله ميمون.
{والّذِين كَفَروا بآياتِنا} فيه وجهان:
أحدهما: بالقرآن، قاله ابن جبير.
الثاني: هي جميع دلائل الله وحُججه، قاله ابن كامل.
{هُمْ أصحابُ المشأمة} يعني جهنم، وفي تسميتهم بذلك أربعة أوجه:
أحدها: لأنهم أُخذوا من شق آدم الأيسر، قاله زيد بن أسلم.
الثاني: لأنهم أُوتوا كتابهم بشمالهم، قاله محمد بن كعب.
الثالث: لأنهم مشائيم على أنفسهم، قاله يحيى بن سلام.
الرابع: لأن منزلهم عن اليسار، وهو مقتضى قول ميمون.
{عليهم نارٌ مؤصدة} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: المؤصدة المطبقة، قاله ابن عباس وأبو هريرة وقتادة.
الثاني: مسدودة، قاله مجاهد.
الثالث: لها حائط لا باب له، قاله الضحاك. اهـ.